dimanche 2 octobre 2011

الوكالة التونسية للتكوين المهني خارج المسار


يعتبر الحراك السياسي و الفكري الذي تعرفه الساحة التونسية هذه الأيام أمرا صحيا و مؤشرا ايجابيا لكونه يعكس ما يدور في ذهن المواطن من انشغال بمستقبل البلاد, و يدل على ارادة حقيقة في المساهمة في مشروع البناء , فلم يعد التونسي ذالك المفعول به الذي يتابع الأحداث من بعيد و يستوعب القرار السياسي بكل حياد و سلبية بل أصبح عنصرا فاعلا منخرطا في المجتمع المدني محاولا من خلال المجالات التعبيرية المتاحة أن يؤثر في القرار و أن يكون بدوره ناحتا لصورة تونس و راسما لملامحها السياسية و الثقافية.

وقد انعكس هذا المد الإصلاحي و البنائي و الذي كان فيه التونسي محورا أساسيا و محركا فاعلا , على مجالات حيوية في البلاد: فعرفت العديد من القطاعات إجراءات تصحيحية و علاجية مكثفة كان الهدف منها الاعتراف بكون المواطن هو القيمة الحقيقة التي يجب علينا رعايتها و التعويل عليها . و في هذا الإطار كانت المؤسسات المكلفة بدور الحضانة و الرعاية هي المعنية الأولى بهذه الإصلاحات بصفتها المنتجة لملامح مواطن المستقبل أي التونسي الذي يعول عليه في البناء و في الإنتاج .

فلقد عرفت المؤسسات التعليمية و التربوية جملة من الإجراءات تمخضت عنها العديد من القرارات الهامة خاصة منها إعادة الهيكلة و تغيير الأطر. فكانت حركة المديرين في المعاهد و الإعداديات خير دليل على مثل هذه الإجراءات. أما مؤسسات التعليم العالي فلقد عرفت حركة مماثلة و لكن هذه المرة كانت بصفة توافقية أو انتخابية حيث تختار كل مؤسسة من يديرها على اثر انتخابات تنظم للغرض. هذا و لا ننسى أن هذه الوزارات لم تكتفي بهذه الحركة بل أحدثت تغيرات جذرية طالت مختلف قطاعاتها و تمت إعادة ترتيب البيت الداخلي: وذلك اما عن طريق إعادة توزيع الأدوار أو بابتكار آليات جديدة تضمن علاقة أكثر أفقية بين أصاحب القرار و القاعدة. و اذ نثمن هذه المكاسب فذلك ليس بصفتها حلا نهائيا و جازما و لكن بصفتها مرحلة تدل على إرادة في التغيير و قد تتبعها مراحل لاحقة.

وربما لا أكون كفئا لسرد و لاستعراض هذه الإصلاحات بالتدقيق و التفصيل لكوني لا أنتمي لهذه الوزارات المذكورة أعلاه, لذلك فاني سأحاول أن أشخص الحالة في المؤسسة التي أنتمي اليها ألا وهي الوكالة التونسية للتكوين المهني التابعة لوزارة التشغيل و التكوين و سأحاول اعتمادا على هذا التشخيص أن أقدم تقييما لمدى انصهار هذه المؤسسة في المشروع المجتمعي وفي مساره الإصلاحي و التغييري.

تعتبر الوكالة التونسية للتكوين المهني أكبر مؤسسة تعتني بميدان التكوين المهني و هي الموفر الأول في تونس لخدمة التكوين. وقد بلغ إلى مسمعي ذات مرة أن عدد المراكز التابعة لها يتجاوز 130 مركزا و لا تقتصر خدمة التكوين هذه على ميدان واحد بل تشمل العديد من الميادين و خاصة منها المهن الأكثر حيوية في البلاد.

تشغل الوكالة التونسية الآلاف من الأطر المختصة و أغلبها من خرجي التعليم العالي حيث يتوزع العدد الأكبر منهم على مراكز التكوين و العشرات فقط يشغلون مناصب ادارية ضمن الادارة العامة. أما عن عدد المتكونين و المتمتعين بهذه الخدمات فيفوق عددهم العشرات من الآلاف و لا أستطيع أن أعطي رقما صحيحا أو دقيقا كوني لست قريبا أو مقربا من سلطة الإشراف حيث أني أشغل خطة مكون من ضمن الآلاف الذين لا تعنيهم هذه الأرقام و لا تكلف الإدارة نفسها مشقة إعلامهم بمثل هذه المعلومات كونها ترى أنهم مجرد مكلفين بمهمة تكوينية بالأساس و لا شأن لهم بهذه المعطيات.

فللمعلومة بالوكالة شبكاتها و أصحابها و ليست بالشأن الجماعي المفتوح . أما عن سلطة أخذ القرار فتلك مسألة أعوص و أكثر تعقيدا و لا يمكنني أن أوضح هيكلها و لا طريقة ترابطها, فكل ما أعرفه أن في أعلى الهرم توجد خطة المدير العام و تليها تحت السلم خطة المديرين المركزيين و لا تسألوني عن مهامهم وعن عددهم فهذا يدخل في باب المعلومات التي لا أقول أنها محظورة ولكن بعيدة على المكونين من أمثالي و لا يمكنني أن أحصيها.

هذا من ناحية الشكل اما من ناحية المضمون فالوكالة تعتبر نفسها فاعلا استراتيجيا لا يمكن للدولة أن تستغني عنه في مسألة التشغيل حيث توفر التكوين للمتخرجين أو المنقطعين عن التعليم و الذين لم يساعدهم الحظ في ايجاد عمل يليق بطموحاتهم و بواقعهم الاقتصادي, و يكون هذا التكوين في الاختصاصات الأكثر حيوية و التي توفر حظوظا أكبر في التشغيل . ولكن هل تقوم الوكالة فعلا بواجبها هذا على أكمل وجه ؟ ألا يمكن اعتبار تفاقم مشكلة التشغيل في تونس من تبعات عجز الوكالة على القيام بدورها كموفرة للتكوين اللازم و في الاختصاصات الضرورية ؟ ثم هل أن المرحلة الراهنة التي تعيشها البلاد , تستوجب من الوكالة مرونة أكثر في التعامل مع الواقع الاقتصادي و السياسي على حد سواء؟ أليس من الضروري أن تشهد الوكالة تغيرات جذرية ليس في آدائها فحسب بل حتى في تصورها لمهامها المستقبلي؟ و اذا كان الأمر كذلك فهل يكون الوصول الى هذه الأهداف بمعزل عن الإصلاح الداخلي ؟

لقد وكل على الوكالة قبل الثورة التونسية مدير عام كان يشغل خطة عسكرية لدى الجيش التونسي و لقد عين في هذا المنصب اثر وصوله الى سن التقاعد ما استوجب تمكينه من ترخيص لمواصلة العمل رغم سنه المتقدم . و ما يهمنا في هذا الأمر هو استعراض لجملة من الإجراءات الإصلاحية التي باشرها هذا المدير العام المخلوع مباشرة بعد الثورة محاولة منه في تدارك الأمر و في عدم معارضته لسياق التيار العام في البلاد: فلقد أمر بتمكين المكونين العرضيين من فرصة للانتداب حسب الأولويات, أما بالنسبة للمكونين المرسمين و غيرهم من أعوان الوكالة فلم تشملهم أي قرارات اصلاحية بل ظلت دار لقمان على حالها .

مع إقصاء المدير العام السابق و تعويضه بالمدير الحالي عمت الوكالة حالة من الفرحة و الابتهاج . و شعرنا بأمل في التغيير و في انتعاشة القطاع و لكن سرعان ما تحول هذا الشعور الى خيبة أمل حيث مرت الأيام متسارعة دون أن نشهد اصلاحات ميدانية فعلية و حتى أننا لم نسمع ببرامج اصلاحية مرتقبة.

بقيت المراكز التكوينية المدججة بالتجهيزات الحديثة غير مستغلة و لا تستقطب الا عددا قليلا من المتكونين, في حين أن غيرها من المراكز يلقى اقبالا كبيرا و لا يمكنه الاستجابة الى كل مطالب طالبي التكوين . بقيت الاختصاصات الجامدة و الغير متجددة و التي تجاوزتها سوق الشغل تقنيا و فنيا هي ذاتها و لم تستوعب رهانات التقدم التكنلوجي. بقيت البرامج التكوينية العقيمة هي ذاتها و لم نتعهدها بالمراجعة أو بالتغيير. نفس المشاكل نفس الأخطاء و نفس الأداء الضعيف, للأسف لم تتغير الأوضاع و لم تهب ريح التغيير على مراكزنا المنسية و لا على إدارتنا العامة مركز القرار.

كل ما عرفته الوكالة هو تزاحم الداني و القاصي على مكاتبها و الكل يريد حل مشكلته الشخصية فبين عون يريد النقلة و متكون يطلب تدخلا لحل مسألة خاصة أصبح مكتب المدير العام مزارا للمريدين ولأصحاب المطالب المستعجلة. ألم يكن من الأجدر أن نعالج المسائل في أصلها و أن نسعى لإيجاد حلول لمسائل عامة و أكثر تأثيرا على القطاع و على الدور الرئيسي الذي بعثت من أجله الوكالة؟ أليس من الأحرى أن نعيد ترتيب البيت حتى نتمكن من إضفاء روح التجديد و الاصلاح و حتى نقدم طرحا يليق برهانات المرحلة؟

إزاء حالة الجمود هذه وعدم المبالاة, تقدم عدد من الزملاء برسالة الى السيد وزير التكوين و التشغيل و هو الممثل لسلطة الاشراف طالبين منه التدخل لحل المشاكل المتراكمة وللنظر في بعض التجاوزات التي لم تكن هناك مبادرة داخلية لمعالجتها أو حتى للتطرق إليها. و في نفس الوقت كانت هذه المراسلة محاولة لتحميل المسؤولية للأطراف المعنية . ولكن رغم أن هذه المراسلة الممضاة في شكل عريضة تحمل لأكثر من ألف توقيع فان الوزير المذكور أعلاه لم يتخذ اي إجراءات فورية . فهل يمكن اعتبار هذا الموقف تقصيرا من وزير التكوين و التشغيل لكونه يعتبر المسائل المتعلقة بالوكالة هي أمور داخلية و يمكن النظر فيها من داخل المؤسسة؟ أو ان اهتمامه بمشاكل التشغيل لكونها مسائل ذات أولوية جعلته يكتفي بإصدار هذا الأمر ولا يباشر بنفسه هذا الملف ؟

اثر هذه المراسلة تكونت لجنة أطلقت على نفسها "لجنة تصحيح المسار" , و بعد حوار مع المدير العام للوكالة تمكنت هذه الجنة من إقناعه بضرورة تنظيم عدة ملتقيات في عدد من الولايات أشرفت عليها بنفسها وكونت على اثر اجتماعها بالزملاء العديد من فرق العمل والتي أوكلت اليها مهمة تدارس الأوضاع داخل الوكالة ورفع تقارير تلخص فيها أبرز المحاور التي ترى في التطرق اليها و معالجتها ضرورة لا تحتمل التأخير . فكانت الاستجابة لهذه المبادرة هامة من حيث عدد المشاركين و ايجابية من حيث قيمة الملاحظات و المسائل التي تمت إثارتها.

لقد كان لهذه العملية انعكاسا طيبا على مستوى تحفيز الزملاء على المشاركة في عملية الإصلاح و تصحيح المسار و كانت ردود الفعل في أغلبها تعبر على أمل في أن تفضي هذه المشاركة على نتائج ايجابية. و أحسسنا كفاعلين في إطار فرق العمل أن التقارير التي انبثقت عن مختلف الجهات و الولايات قد تفضي إلى إجراءات فعلية تغير الأوضاع على أرض الواقع .

و باعتبار أن هذه التقارير لم تكتمل إلا في شهر جويلية 2011 فلقد كنا نتوقع أن تتزامن بداية السنة التكوينية الجديدة مع مبادرة الإدارة في اتخاذ قرارات حاسمة و مباشرة. إلا أن إنتظاراتنا هذه لم تتحقق و باشرنا العمل دون تغييرات تذكر. فلقد اكتفت سلطة القرار بتغيير بعض مديري المراكز مع العلم أن حركة النقلة هذه لم تطل العديد من الوجوه التي عرفت بمباركتها للنظام السياسي السابق و فيهم العديد من الشخصيات التجمعية التي كانت تمارس مهام حزبية في إطار الحزب الحاكم المنحل و العديد من الشخصيات الأخرى التي كان تعيينها في مراكز إدارية لا يقوم على أساس الكفاءة بقدر ما يقوم على مقاييس الولاء و المسايرة و الطاعة العمياء .

لقد بقيت الإجراءات و القرارات القليلة و الضعيفة دون مستوى الطموحات و دون مستوى الإصلاح المرتقب. ان خيبة الأمل التي عمت أغلب اطارات الوكالة و حتى أغلب المتكونين لم تحول دون مواصلة العمل أو الاجتهاد في تحسين المردودية و لكن انتابنا شعور باليأس و الخوف من مستقبل تضيق فيه الأفق و تقل فيه الحماسة و ينحصر فيه الطموح .

في الأيام القليلة الماضية و تحديدا يوم 17 سبتمبر تم استدعاء ممثلين عن مراكز التكوين المهني و الذين تم اختيارهم اما بطريقة توافقية أو عن طريق انتخابات خصصت للغرض. وكان عنوان الجلسة :" اعادة الهيكلة " يعيد الى الأنفس شعلة الأمل التي كادت أن تنطفئ . و كنت من بين الحضور بصفتي مقرر فريق ولاية صفاقس . و رغم أن المدير العام السيد إبراهيم التومي كان حضوره برفقة لجنة تصحيح المسار الا أن خطابه كان لا يتوازى مع الأهداف المعلنة من قبل هذه المجموعة . فبعد أن استمع الى الحضور انفرد باتخاذ قرار يعتبر بمثابة تأجيل أو تعليق للورشات التي كان من المزمع تكوينها للنظر في محاور إصلاحية أساسية. و أعلن عن ختم الاجتماع مكتفيا بالتأكيد على ضرورة اجراء اجتماعات في كل مركز تكويني للنظر في المحاور ذاتها و ايفاد الادارة العامة على اثر ذلك بنتائج المتوصل اليها من ملاحظات و آراء. فألا يعتبر قرار المدير العام هذا عائقا أمام عملية تصحيح المسار و تأجيلا لما كان من المفروض الاسراع بتقديمه ؟

ان الجلسات المقرر عقدها في صلب كل مركز ستكون برئاسة المديرين ذاتهم الذين سلف ذكرهم , فهل سيأثر ذلك على النتيجة التي من المفروض أن تكون في صالح المجموعة العامة؟ ستكون هذه الاجتماعات أيضا بحضور شخصيات نقابية و التي كانت ترفض الانضمام تحت راية لجنة تصحيح المسار لكونها تعتبر نفسها المعنية الأولى بعملية الاصلاح و ترفض للأسف أن تشارك كمنظمة في هذا المسعى متعللة بكونها لوحدها قادرة على القيام بهذه المهمة . و هنا نتساءل لماذا إذن لم تقم بمبادرة في هذا المنحى الى حد هذه الساعة؟ و لماذا بقيت النقابة بعيدة عن الأصوات المرتفعة و المنادية بالإصلاح و لم تهتم بهواجس منخرطيها؟ ألا تعتبر مسألة تصحيح المسار هذه قضية حق تأخذ طابعا وطنيا قبل كل شيء ؟

لقد ارتفعت العديد من الأصوات خلال الاجتماع المنعقد تحت راية اعادة الهيكلة, منادية بضرورة المحاسبة و بضرورة اقصاء كل من ساهم في تفشي الفساد في الوكالة مهما كان موقعه. و لقد انزعج بعض الحضور من هذه المطالب لكونها ليست السبيل الأصلح حسب ضنهم في تصحيح المسار فلربما زادت الأمر تعقيدا و ابعدتنا أكثر عن الهدف المباشر. ولكن في ظل انسداد الأفق و غياب رؤية واضحة للمستقبل يضل الرجوع إلى الوراء و التفكير في التجاوزات القديمة أمرا يشغل كل المهتمين و يزيد في قلة ثقتهم بالإدارة عامة و بأصحاب القرار بصفة خاصة.

يمكننا القول ختاما أن مسائل عالقة كثيرة و ذات أهمية لم يتم التطرق اليها الى حد تاريخ كتابة هذا النص و اننا و الى حد اليوم لا نزال في انتظار هبوب رياح الاصلاح و التغيير. لقد أحسسنا كمنتمين الى منظومة التكوين المهني أن هذا القطاع لم ينل ما نالته القطاعات الأخرى من الاهتمام رغم دوره الفعال في تحريك الحياة الاقتصادية في البلاد و خاصة من خلال دعم فرص التشغيل و المساهمة في تطوير آليات الانتاج . ان شعورا بالاغتراب لا يزال ينتابنا لأننا لم نساير ما تعرفه تونس اليوم من ثورة على الباطل و من محاولات إصلاحية و بنائية هادفة و واعدة. لقد بقينا خارج التاريخ ننتظر دون انقطاع الأمل في يوم تتغير فيه الأمور و تنفرج فيه الأحوال. و لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار هذا السكوت و هذا الانتظار موقفا سلبيا قد لا يساهم في دفع مسيرة الإصلاح إلى الأمام؟ و إلى أي حد قد تتضرر المجموعة الوطنية إذا ضل هذا القطاع أقل تطلعا مما يستوجبه الرهان ؟


عادل الجموسي